في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٣

د. محمد جلال هاشم - 27-06-2020
في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٣ | د. محمد جلال هاشم

الحلقة رقم (3)
مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي
الثقافة، الدّولة، الدّيموقراطيّة، الاستقلاليّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية



ما هي الدّولة الوطنيّة؟


ما نعنيه بالدّولة الوطنيّة Nation Statehood هو الدّولة ذات السّيادة على رقعة من الأرض متعارف عليها وبموجب ذلك لا يجوز لأيّ قوّة خارج حدود هذه السّيادة التّدخّل. أي شكل الدولة التي تطوّرت بدءاً ولاحقاً من اتّفاقيّات صلح وسلام ويستفاليا Peace Treaties of Westphalia التي وُقّعت في أوروبّا في عام 1648م في مقاطعة ويستفاليا التي أنهت حرب الثّلاثين عاماً (1618م ــــ 1648م) التي دارت رحاها داخل أراضي ألمانيا بين مختلف القوى المتصارعة ضمن الإمبراطوريّة الرّومانيّة، ثمّ حرب الثّمانين عاماً (1568م ــــ 1648م) بين إسبانيا وجمهوريّة الأراضي المنخفضة (هولندا لاحقاً) فكان أن أدت إلى ما يُعرف بالدّولة الوطنيّة ذات السّيادة على رقعة جغرافية بعينها. إنّ أعظم ما ميّزت الدولة الوطنية، بجانب السيادة والحدود السياسية، حقيقة أن الشعب أصبح هو مصدر السلطات وأنها عَلمانية من حيث بنيتها. فقبل ذلك كانت السّيادة هي سيادة العاهل Sovereign Monarch، بينما جميع من يعيشون تحت كنف العاهل هم الرعايا Subjects. وفي الحقيقة لم تتبلور الدّولة الوطنية بمجرد التوقيع على اتفاقية ويستفاليا، بل مرّت بمخاض طويل امتدّ لما يزيد على القرنين من توقيع تلك الاتفاقية (لمزيد من التفصيل والقراءات، يرجى مراجعة: ديفيد هيلد، 1983). ويعني هذا أنّه في الدّولة (الوطنيّة تحديداً) لا يتمّ تداول السّلطة فيها بموجب أيّ ادّعاء سماوي طالما أنّ الذي يتسنّم المنصب الرّئاسي أو الملكي أو البرلماني يستمدّ سلطته من سلطة الشّعب ممثّلة في مفهوم المواطنة. وعَلمانية الدولة بهذا الفهم ليست مذهباً فكريّاً أو موقفاً فلسفيّاً يمكن للفرد أن يتبنّاه أو أن يعارضه؛ فهي حكم ضرورة طالما كنّا نعيش في كنف الدّولة الوطنية. بتدشين مفهوم المواطنة والسّيادة وفق الفهم الحديث للدّولة الوطنية المستقلّة، كُتبت مرحلة جديدة في تاريخ تطوّر مؤسّسة الدّولة. فقد انتهى في أوروبّا إلى غير رجعة الفهم القائل بالحقّ الإلهي في الحكم ليحلّ محلّه الحقّ الدّنيوي في الحكم ممثّلاً في حقّ الشّعب الذي يعيش ضمن حدود دولة ذات سيادة في أن يحكم نفسه، أو أن يُحكم وفق نظام يقبل من حيث المبدأ بهذا الحقّ وقد يعمل على تحقيقه عبر العديد من وسائل التّمثيل النّيابي. على هذا يمكن أن نخلص إلى تعريف إجرائي للدّولة الوطنيّة يخدم أغراض هذا البحث على النّحو التّالي: "الدّولة الوطنيّة هي دولة مغلقة Closed State، بمعنى أنّها غير متاحة حقوقيّاً إلاّ لمواطنيها. تقوم الدّولة الوطنيّة على رقعة جغرافيّة يعيش عليها شعب يتمتّع بالسّيادة على أمر نفسه وعلى أمر رقعته الجغرافيّة. بجانب هذا تقوم الدّولة الوطنيّة على حكومة مركزيّة تستمدّ سلطاتها من تركيز سيادة هذا الشّعب عبر تركيز إرادته العامّة بأيّ شكل من أشكال التّمثيل بما يضمن له القدر الكافي من الحرّيّة التي تمكّنه من الخلق والابتكار في سبيل الارتقاء بمستوى معيشته بما من شأنه أن يعود على الدّولة (ممثّلةً في الحكومة كممثّلة للشّعب) بالثّروة والغنى المتحصّلة من الضّرائب التي يدفعها القادرون من فئات الشّعب، فضلاً عن أيّ أنشطة اقتصاديّة قد تملكها الدّولة، كلّ هذا بما من شأنه أن يعود بالخير والرّفاهيّة للدّولة ممثّلةً في الحكومة المركزيّة التي تمثّل الشّعب، الأمر الذي من شأنه أن يجعل هذه الدّولة قويّة ومنيعة بجيشها وحكومتها وشعبها، يخشاها الآخرون، دولاً فرديّةً كانوا أم تحالفات دول. وتكون الحقوق في هذه الدّولة قائمة على المواطنة دونما تمييز على أساس السلالة أو المعتقد أو النّوع، وبدون أيّ مجال لما يُعرف بالحقِّ الإلهي الذي كان الملوك فيما قبل يزعمونه أو على ما يُعرف بحقّ العرق النّبيل الذي قد يزعمه البعض".
أوّل الملاحظات على هذا التّعريف، مشفوعاً بالاستعراض أعلاه، أنّ مؤسّسة الدّولة الوطنيّة بهيكليّتها هذه عَلمانيّة من ناحية بنيويّة structurally secular. الملاحظة الثّانية هي مفهوم المواطنة باعتبار أن المواطنين هم مصدر السلطات؛ الملاحظة الثالثة هي الاستقلاليّة المرتبط بمفهوم السّيادة بمعنى أن تركيز الإرادة العامة للمواطنين ينبغي أن يتجلّى في استقلالية الدولة وعدم خضوعها لأي قوة خارجها. فمن الواضح أنه لا يمكن أن تكون هناك سيادة حقيقيّة في ظلّ غياب الاستقلاليّة. فإذا كانت السّيادة هي جماع تركيز القوّة المادّيّة للشّعب، فإنّ الاستقلاليّة هي بدورها جماع تركيز الإرادة العامّة للشّعب. والإرادة العامّة للشّعب فيها الجانب غير المادّي. الملاحظة الثّالثة هي أنّ الاستقلاليّة ذات ارتباط عضوي بمفهوم الدّولة الوطنيّة بما يجعلها كينونة Entity قائمة بذاتها في مواجهة الدّول الوطنيّة الأخرى. ويعني هذا أوّل ما يعني تبلور الحسّ الوطني (الوطنيّة Patriotism)، أو ما عرّفه فلاسفة الدّولة الوطنيّة (انظر أدناه) بمفهوم "روح الأمة" Spirit of the Nation.
وهذا يستدعي الكثير من إعادة النّظر في حالات الدّولة الوطنيّة لما بعد الاستعمار، أي النّاجمة عنه. فقد استقبلت في غالبها الأعمّ استقلالها بوصفها، افتراضيّاً، دولاً وطنيّة من النّاحية النّظريّة، بينما عمليّاً تقاصر أداؤها عن أن يثبت هذا في غالب الأحوال. فقد نالت استقلالها الاسمي والاعتراف الاسمي أيضاً بسيادتها على رقعة من الأرض معروفة، كلّ هذا دون أن تبلغ مرحلة تبلور الحسّ الوطني وبلوغها مرحلة "الأمّة"، ولا تزال تراوح مكانها. وقد دفعت هذه الدّول، ولا تزال تدفع، ثمناً غالياً بسبب هذا. هذا دون أن نقلّ من دور الاستعمار الحديث Neocolonialism الذي لعب، ولا يزال يلهب، دوراً كبيراً في تعويق نموّ هذه الدّول التي خرجت من تجربة الاستعمار.

ما هو الشعب وما علاقة المصطلح بمؤسّسة الدّولة؟

كلمة "الشعب" هي مصطلح مركب عالي التعقيد، إذ لا ينحصر في معناه في المجموعة من الناس، وإلا فقد صفة التركيب والتعقيد. الجدير بالذّكر أنّ مفهوم الشّعب يعتبر ظاهرة من ظواهر الدّولة الوطنية. فقبلها لم تكن هناك شعوب، بل رعايا. ويرتبط مفهوم "الشعب" ارتباطاً وثيقاً بعمليّة تداول السّلطة داخل الدّولة. وعليه، المجموعة من الناس لا تصبح شعباً ـــ في عصرنا هذا وفق ما تمخض عن اتفاقية ويستفاليا ــــ إلاّ إذا تمّ تدوير للسّلطة ما بين المستوى القاعدي من جهة، والمستوى السّياسي من الجهة الأخرى في سياق ثقافي محدود برقعة جغرافية هي الدّولة الوطنية بموجب تعريفنا لها أعلاه. وهذا بدوره لا يحدث إذا لم تقم المجموعة المعنية من الناس ببلورة إحساس انتماء بعضها لبعض. وهذا يمكن أن يحدث عبر عدة آليات، منها الآلية البسيطة، وهي شبكة القرابة ووحدة اللغة ووحدة المعتقد، بحيث يتم إسقاط كل هذا الوعي على رقعة من الأرض. أما الآلية المركبة، فهي أكثر إنسانيةً وأعلى كعباً في مضمار الحضارة، إذ تبدأ بالحق الإنساني في الحياة والرفاهية والعدل والسلام، لتنتقل إلى محدودية الجغرافيا من حيث انحصار مجموعة الناس المعنية في رقعة بعينها بما يعني أن يبذلوا قصارى جهدهم لتدبير طريقة للعيش المشترك بما يدفع بهم جميعا للنماء وتحقيق الرفاهية والعيش في سلام وتحت درجة من العدل النسبي الكافي. وهذا ما يجعلهم يشعرون بالانتماء لبعضهم البعض برغم الاختلافات الإثنية واللغوية والمعتقدية الناشبة بينهم.
يقوم النموذج الأول (الآلية البسيطة) على منظور بوتقة الانصهار، بينما يقوم النموذج الثاني (الآلية المركّبة) على منظور الوحدة في التنوع. وهناك علاقة جدلية بين المنظورين تدفع الأول كيما يستقل مفهوم الهوية فيه عن السلالة (شبكة القرابة) واللغة والمعتقد لينفتح نحو أبعاد أكثر إنسانيةً فيحقق الفرد ذاته عبر استقلاله عن كل ذلك بإعلاء قيمة الانتماء عبر إسقاطها على الجغرافيا بدلاً عن السلالة. وفي الجانب الآخر تعمل ميكانيزمات الهوية لتحقيق درجة أعلى من محدودية الجغرافيا لتنفتح الهوية المركبة نحو الهويات الصغرى التي لا تزال معلّقة على السلالة واللغة والمعتقد. ويكون جماع هذا تفاعل هويّاتي إيجابي جدلي الطابع يجعل الناس جميعاً يشعرون بانتمائهم لبعضهم البعض برغم وجود الاختلافات. فالانتماء لبعضهم البعض غير مشروط بإزالة الاختلافات والفوارق، وإلا كان ذلك بوتقة الانصهار. بهذا تكتمل دائرة ممارسة السلطة في هذه المجموعة من الناس، وبهذا يتحولون من مجرد "ناس" إلى شعب.
وفي الحقيقة لا يوجد شعب لا تُعتمل في داخله هذه العمليّة الجدليّة التي يقع عليها مناط تطوّر الشّعب وقدرته على تجويد ممارسة السّلطة بما يعود للجميع بالخير والرفاهية والعدل ثم السلام، ثم يعود بما هو أسمى وأعلى من ذلك ألا وهو الجمال. ولكن أخطر تطوّرين يحدثان في سياق هذه العملية هي، أولا، إنتاج الصفوة التي يقع عليها مناط قيادة المجتمع عبر تحقيق أكبر قدر من الاستقلالية بها يتمكن المجتمع من تحقيق أصالته ومعاصرته بما يعني اتساع دائرة الوعي بالذات وبالآخر، ثم بالبيئة. أما المنتج الثاني الخطير، فهو الأيديولوجيا التي تعمل عكس الاستقلالية كونها تعمل على تزييف الواقع وخلق وهم بأفضلية قطاع على الآخر، وسلالة على الأخرى، ثم معتقد على الآخر. وأقوى سلاح تستخدمه الأيديولوجيا هي التنميط stereotyping، بما يحول دون تبنّي رؤية نقديّة تجاه الواقع، ذلك بأن تصبح هناك رؤى ومفاهيم يأخذها الناس على أنها أمر مسلّم به، بينما هي غير ذلك كونها أمراً مسلّما به من غير أي نظرة نقدية فاحصة. وهذا هو مدخل الأيديولوجيا لتزييف الوعي بتزييف الواقع.
ولهذا قلنا، ونقول مرّة أخرى، إنّ الثّقافة توّلد الذّكاء، كونها دائماً منفتحة ومتفاعلة وديناميكيّة، ثمّ لأنّها نسبيّة الأحكام، وبهذا يكون في مقدورها تجاوز أيّ مفهومٍ بالٍ للانتقال منه بسلاسة إلى المفاهيم الجديدة. هذا بينما الأيديولوجيا تقف على النّقيض من ذلك، كونها منغلقة وغير متفاعلة، خطّيّة غير ديناميكيّة، ثمّ لأنّها إطلاقيّة في أحكامها، ولهذا تولّد الغباء، ما نسمّيه بالغباء الأيديولوجي. وهنا ينبغي أن نُمايز بين عمليّتين ترتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً، بالرّغم من تناقضهما. العمليّة الأولى هي حقيقة أنّ الشّعب ينحو إلى التّعامل بالثّقافة وعبر الثّقافة، طالما كان يعيش في كنفها، هذا بينما تنحو الدّولة، عبر النّخب، إلى التّعامل بالأيديولوجيا، الأمر الذي يفضي إلى اغتراب الدّولة عن الشّعب وعن ثقافته. وهذا ما يستدعي الدّيموقراطيّة كآليّة لتصحيح الأوضاع من جانب، بمثلما يقف كمبرّر للحكم الدّيكتاتوري لوقف عمليّة التّغير والإصحاح من الجانب الآخر.